الوضع البشري :الشخص


مجزوءة الوضع البشري :          الشخص

 

لقد شكلت المعالجة الفلسفية لموضوع الوضع البشري, أحد اهتمامات الفلسفة الحديثة والمعاصرة ,لما يتميز به هذا الوضع من تعقيد وغنى ,تتقاطع فيه عدة محددات وأبعاد مختلفة : محددات بيولوجية ونفسية واجتماعية وثقافية وأخلاقية ,وأبعاد ذاتية (كذات أوكأنا ,علاقة الإنسان بذاته) وعلائقية ,كانفتاحه على الغير: (علاقة الإنسان بغيره) ونسج علاقات متنوعة معه. لقد حول الفلاسفة الوضع البشري من مشكلة واقع معيشي يومي , إلى قضية فلسفية وجودية  وأخلاقية, حيث تساءل الفلاسفة حول هوية الشخص وقيمته, ومدىحريته واستقلاله إتجاه أوضاعه وعلاقته مع العالم ومع الغير

ويتميز الوضع البشري بطابعه الإشكالي, الذي يمكن التعبير عنه من خلال الأسئلة التالية :

كيف يتحدد وجود الإنسان بوصفه شخصا؟ وماطبيعة علاقة الشخص بالغير؟ وما الدور الذي يلعبه الغير في تشكيل  الأنا؟ وهل وجود الإنسان بوصفه شخصا محكوم بالضرورة أم هو قائم عاى الحرية؟

أمادلالة مفهوم الهوية فتحيل إلى ماهو ثابت وقار فكلمة identité تشير  إلى الشخص ذاته في مختلف لحظات وجوده .إنها تحيل إلى معاني الثبات والمماثلة.في مقابل المغايرة والإختلاف.وتطابق الفرد مع ذاته,أي أن الشخص يبقىهو نفسه .فإلى أي حد يمكننا الحديث عن هوية ثابتة قارة للشخص؟ وهل باستطاعة الشخص أن يدرك هويته بمعزل عن الغير؟ ثم هل الشخص الذي يعرف بإمكانه معرفة ذاته؟ إن هذه الأسئلة تضعنا في مواجهة  المفارقات الفلسفية paradoxes التالية:

هوية الشخص بين الثابت والمتحول

هوية الشخص بين المنغلق والمنفتح

هوية الشخص بين الوعي واللأوعي

موقف ديكارت :إن التفكير في الذات وفي النفس(الفكر) هو مايسمى وعيا بالذات وهو الذي يمنح للشخص هويته كأنا مفكر.فالذات العارفة تكتشف من خلال التأمل والعودة إلى الذات هويتها إذ يقول: " ولكن أيشيء أنا الآن إذن؟ أنا شيء مفكر ,ومالشيء المفكر؟ إنه شيء يشك ,ويفهم , ويتصور, وينفي, ويريد ويتخيل ويحس أيضا ...

ألست أنا  ذلك الشخص نفسه الذي يشك الآن في كل شيء على التقريب , وهو مع ذاك يفهم بعض الأشياء ويتصورها ... فبديهي كل البداهة أنني  أنا الذي أشك وانا الذي أفهم  وأنا الذي أرغب  ولاحاجة لزيادة الإيضاح" يتبين لنا أنه بواسطة أفعال التفكير-الواردة في النص- يتوصل الأنا إلى العي بذاته وإدراك هويته كشخص . إن ديكارت كفيلسوف عقلاني يمنح للوعي مكانة أساسية في إنتاج المعرفة حول كا القضايا الوجودية والمعرفية والأخلاقية. كما

 يعطي الأهمية للإنية المنغلقة على نفسهاsolipsisme      على حساب الغير. فالوعي بالذات هو أساس وقوام هوية الشخص لديه.

أطروحة جون لوك : على خلاف ديكارت يعتقد ج.لوك أن أساس هوية الشخص هو الشعور والإحساس المقترن بالفكر,والمصاحب لكل الأنشطة الأخرى التي يقوم بها الأنا,يقول"إذلما كان الشعور يقترن بالفكر على نحو دائم ,وكان هذا هو مايجعل كل واحد هو نفسه,ويتميز به, من ثم عن كل مفكر آخر,فإن ذلك هو وحده مايكون الهوية الشخصية أو مايجعل كائنا عاقلا يبقى دائما هو هو" بمعنى أن الشخص يحس أويشعر وهو يقوم بأفعاله المختلفة والمتنوعة,حيث يفكر  وهو يحس بأنههو الذي  يفكر وينصت وهو يحس بأنه هو الذي ينصت....لقد منح  ج لوك أهمية كبرى للشعور أو الإحساس مقابل  الوعي إنسجاما مع توجهه الفلسفي التجريبي empirique

أطروحة شوبنهاور:يختلف هذا الأخير عن كل من ديكارت ولوك حول أساس هوية الشخص .فلا الذاكرة التي يعتريها النسيان, ولا الذات العارفة التي لاتقوم  إلابوظيفة بسيطة في حياتنا,يمكنهما تشكيل هوية الشخص.إن إرادة الحياة هي النواة الحقيقية لهوية الشخص .ورغم اختلاف  هذه الأطروحات حول أساس هوية  الشخص ,فإنها جميعها تلتقي عند الخاصية القارة والثابتة والمنغلقة لهويته لذا سنتساءل:هل يبقى الشخص هوهو رغم التغيرات التي تطرأ عليه في حياته؟ إن هذه الصيغة الإستفهامية تشير ضمنيا إلى إمكانية تعدد الإجابات عن هذا التساؤل, إذليست هناك في الفلسفة إجابة أحادية وموحدة من طرف جميع الفلاسفة , مما يفسح لنا المجال للتطرق للأطروحات الفلسفية المعارضة

الأطروحات المعارضة :إن وجود الذات (الشخص) كهوية واضحة ومتميزة ليس سوى وهم  حسب الفيلسوف  الأنجليزي دافيد هيوم إذلاوجود لهوية للأنا لافي الفكر ولافي الجسم وإنما هناك فقط ركام من الخبرات والذكريات والأفكار والإنطباعات الحسية البسيطة: إنطباعات معزولة لارابط بينها, وبالتلي لا وجود"للأنا" الذي تتلتئم وتتحد حوله كل هذه الأفعال. كما أن الفيلسوف الفرنسي باسكال لايقبل ببداهة وجود الهوية الشخصية كما تصورها ديكارت. إذ تتسم في نظرهبوجود إشكالي , يسال قائلا:" فأين يوجد إذن هذا الأنا إذا لم يكن موجودا لافي الجسم ولا في النفس؟ لقد اعتقد ديكارت أن الكوجيطو"أنا أفكر  إذن أنا موجود"إدراك بديهي وبسيط وأن الذات تعي نفسها بواسطة الفكر وحده(الإنغلاق) غير أن الفكر المعاصر يرى أن الشخص نشوء وسيرورةلامتلاك الذات في علاقتها بالآخر.هذه البنية المنفتحة على نفسها وعلى الآخرتتعارض  معالتصور الماهوي  الثابت للشخص,وقد عبرت عن هذا الموقف الباحثة والمفكرة المعاصرة جاكلين روس ,حيث ترى بأن هوية الشخص ليست معطاة بشكل قبلي جاهز , وإنما تتشكل بالتدريج وببطء, فالطفل الصغير لايعي هويته المتفردة الخاصة إلاعندما ينطق لاول مرة بلفظة "أنا" بعد سنة على الأقل من ولادته, وكلما تطورت اللغة,  واحتك  بعالم الآخرين( الغير) كما أخدت هويته الشخصية  في النشوء والتبلور والتمايز. فضلا عن ذلك يمكننا أن نتساءل عن قيمة ودور الوعي في إدراك هوية الشخص, إذ ليس الوعي سوى الجانب  السطحي للأوعي على ضوء معطيات مدرسة التحليل النفسي la psychanalyse

(2 الشخص بوصفه قيمة :مالذي  يؤسس البعد القيمي- الأخلاقي للشخص؟وهل يمكن فلسفيا تبريرالإحترام والكرامة          الواجبة بشكل مطلق للشخص البشري؟ وماعلاقةذلك  بمسوؤليته والتزامه كذات عاقلة وحرة  تنسب إليها مسؤولية أفعالها؟ يدل لفظ القيمة على خاصية الشيء أو الموضوع,بحيث يكون متميزا عن غيره بما يتضمنه من سمات إيجابية كالخير والحق والجمال ... لهذا فمن الممكن مقاربة مفهوم الشخص ليس كمجرد ذات عارفة فحسب,وإنما كذات أخلاقية أيضا . فأين تكمن قيمة الشخص؟ وهل يكتسب الشخص قيمته الأخلاقية من ذاته أم من علاقته بالآخرين؟

أطروحة إمانويل كانط :إن قيمة الشخص تكمن في كونه كائن حي عاقل ,بحيث يتميز عن باقي الكائنات الأخرى في كونه غاية في ذاته,أي ليس مجرد شيء أو وسيلة لتلبية ميول وأغراض الغير.إن قيمته الحقيقية تتمثل في كونه يتوفر على عقل أخلاقي عملي ,عقل مشرع يحدد القواعد الأخلاقية الكونية وفق مقتضيات العقل السليم.ومادام العقل الأخلاقي ومقتضياته كونيا, فإن الإنسانية جمعاءتوجد بداخل كل فرد مما يستوجب احترامه ومعاملته كغاية لاكوسيلة والنظر  إليه كما لو كان عينة تختزل الإنسانية جمعاء .وهذا الإحترام الوجب  له من طرف الغير لاينفصل عن ذلك الإحترامالذي يجب  للإنسان اتجاه نفسه , إذلاينبغي له  أن يتخلى عن كرامته ,وهو مايعني أن يحافظ على الوعي بالخاصية السامية لتكوينه الأخلاقي الذي يدخل ضمن مفهوم الفضيلة...

الأطروحة الهيجيلية: يعتبر هيجل أن قيمة الشخص تتأسس على الإنفتاح على الآخرين والإمتثال لروح الواجب, يقول"فالأفراد يقومون بالمهمة التي أسندت إليهم وهم ملزمون بالقيام بالواجب إن قيمتهم الأخلاقية تكمن في سلوكهم امتثالا للواجب" فلكل مجتمع منظومة خاصة من الأخلاق والقوانين, يتوجب على الشخص الخضوع لها للعيش وفقها ضمن حياة المدنية والنظام

غير أن جورج غوسدروف يرى أن فكرة استقلال الشخص الأخلاقي,كما تحدث عنها كانط لاتعكس حقيقة الوضع الإنساني ,لأنها تتغاضى عن أشكال التضامن والتعايش والمشاركة,التي تميز علاقة الناس فيما بينهم, ولايمكن للشخص,في نظر غوسدروف أنيكتسب قيمته الأخلاقية من ذاته,وكأنه"إمبراطور داخل إمبراطورية" يضع نفسه في مقابل العالم وفي تعارض مع الآخرين.إن الشخص في الواقع ينفتح على الكون وعلى الغير,وهو لايوجد ولايكتمل ولايغتني إلابالمشاركة والتضامن,وبالأخد والعطاء...

أطروحة توم ريغان: يوسع هذا الفيلسوف الأمريكي من دائرة الكائنات التي يجب أن تكون موضوع احترام لتشمل الكائنات الغير عاقلة كالأطفال والمعاقين ذهنيا ,بل وحتى الحيوان والمجال  الإيكلوجي أيضا ,لأنها تحيا حياة يعنيها أمرها, مما يتجاوز المنظور الكانطي الكلاسيكي الذي يقتصر على الكائن العاقل فقط

يتبين لنا أن هذه الأطروحات جميعها ,رغم مابينها من اختلاف ,تتمحور حول مايجب أن يكون وتتجاهل ماهو كائن في واقع الحياة البشرية , حيث أن الكثير من الأشخاص يقعون ضحية المس بكرامتهم نتيجة الإغراء أو الإكراه, مما يستدعي ضرورة دعمهم  ومساندتهم بدل إصدار أحكام قيمة جائرة في حقهم

3)الشخص بين الضرورة والحرية : مامدى حرية الشخص في ظل معطيات العلوم الإنسانية؟

إلا أن إيمانويل مونيى, باعتباره ممثلا للفلسفة الشخصانية (فلسفة تنطلق من فكرة أن عالم الشخص هو عالم الإنسان, وتؤكد بشكل أساسي  على وجود أشخاص أحرار ومبدعين) ينتقد الفلسفات السابقة التي جعلت من الإنسان فردا مجردا, مفصولا عن الآخرين وعن الطبيعة, ويعتبر بالمقابل أن الشخص هو جزء من الطبيعة والمجتمع , وأنه ذات تبدع ذاتها بذاتها بالإنفتاح على الغيروعلى الكون . كما ينتقد مونيى العلوم  لأنها تتعامل مع الشخص كموضوع للمعرفة, فلا تعكس إلا مظهرا من وجود الشخص . ويعتقد مونيى أن الشخص ليس موضوعا , بل هو بالذات مالا يمكن في أي إنسان أن يعامل  بوصفه موضوعا. إن الشخص هو الواقع الوحيد الذي نعرفه ونصنعه في الآن نفسه من الداخل. ويعتبر  مونيى أن الحرية هي إثبات  أوتأكيد للشخص, وهي شئ يعيشه الشخص  ولايراه. ومايتصور سارتر      

من حرية مطلقةاومن  تأكيد مطلق للشخص هو مجرد أسطورة. إن حرية الإنسان هي حرية شخص, حرية هذا الشخص , أي أن الحرية مرتبطة بوضعيتنا الملموسة ومشروطة بها , والحرية لاتتقدم إلا عبر الوائق والإختيار والتضحية. كما أن الإنسان الحر هو الإنسان المسؤول

خلاصات : نستخلص مما سبق :

رهانات يطرحها المفهوم : إذاكان الشخص يشير , كما رأينا, إلى الإنسان بوصفه يملك وعيا وعقلا وإرادة حرة ومستقلة, وله بعد أخلاقي وحقوقي , فهل يمكن أن يشمل معنى الشخص الطبيعة والحيوانات كما تنادي بذلك بعض فلسفات البيئة؟ وهل يمكن أنيشمل "الضيع"كذلك كما يقترح علماء النفس والأطباء؟ ثم ألاترتبط الهوية الشخصية بأشياء أخرى غيلر الوعي , والذاكرة والإرادة مثل :اللغة , والدين و والعرق , والتقاليد ....؟

أسئلة للتقويم التشخيصي :- هل يمكن للشخص أن يستمد  قيمته الذاتية من انعزاله وانكفافه على ذاته؟

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :