إدغار موران



ابراهيم قمودي

          يتناول ادغار موران مثكل الهوية من جهة تعقّد وتنوّع مستويات الهوية الإنسانية، إذ أنه يرى أن التنوع بين الأفراد والثقافات يبلغ حدا كبيرا إلى درجة أننا نحسب القول بالوحدة الإنسانية ضربا من التجريد. وبخلاف ذلك قد يتضمن القول بوحدة الإنسانية القضاء على فكرة التنوّع. وفي كلتا الحالتين لا نتمكّن من فهم جدلية الوحدة والتنوع بما هي الأساس التفسيري للإنسان والثقافة على حدّ السواء، لذلك ينقد ادغار موران التصورات التي تقف عند الوحدة فحسب و تلك التي تقف عند الكثرة فحسب دون اعتبار الجدلية القائمة بين الوحدة والكثرة، إذ يجب أن ننظر في الوحدة من جهة كونها تنتج التنوّع لا من جهة كونها تولّد التجانس وتقضي على التنوع كما يجب أن ننظر للتنوع من جهة كونه ينتج الوحدة، لا التنوع الذي ينغلق على ذاته فيقضي على الوحدة.

ذلك أن السؤال عن الهوية عند ادغار موران لا يخرج عن سؤال "مــا الإنسان؟" و السؤال عما هو إنساني في الإنسان، خاصة وأن السؤال عن الهوية، هو سؤال كثرت المطارحات حوله في وقتنا الراهن، حيث أصبحنا الشهود المذعورين من المشاهد الوحشية التي تقدمها وسائل الإعلام يوميا لمشاهدي كلّ الكوكب، فنتساءل عن طبيعة هذا الكائن القادر على الخير كما الشرّ إلى أقصى حدّ، فالإنسان هو كائن يعيش منذ بداية تاريخه على ما ينتجه ولكن أيضا على ما يحطّمه إذ هو كائن حيّ يبلغ أقصى حدّ اشتغاله عندما يستعمل قدراته على التجمّع وعلى تكوين المجتمعات، لذلك فإن الثلاثية الإنسانية المتمثلة في الفرد والمجتمع والنوع تضع الفرد الإنساني في وضعية تسمح له في ذات الوقت بتكوين تنوّع غير محدود ووحدة خصوصية، غير أن العلاقات بين هذه الحدود الثلاثة ليست فقط متكاملة بل هي أيضا متضادة وتمثل إمكانات صراع بين خاصيات بيولوجية وخاصيات ثقافية في سيرورة متعاودة وفي تولّد مستمرّ، لذلك فإن الهوية الإنسانية حسب ادغار موران تحمل في ذاتها شكل الوضعية الإنسانية المتكثرة لا بطريقة منفصلة أو متعاقبة، ولكن بطريقة متزامنة فالإنسان هو في ذات الوقت كائن عارف وكائن صانع وكائن اقتصادي... والهوية المركّبة بهذا المعنى لا تذوب لا في النوع ولا في المجتمع ذلك أن الإنسان كذات وكفرد لا يتعيّن فقط في الحوار مع ذاته ولكن يتعين أيضا في الحوار مع الآخر.

         ومن هذا المنطلق يرفض ادغار موران أن يختزل الهويّة الإنسانية في نظرية واحدة ومتجانسة، بل هو يوسّع ضروب تفكيرنا ويلحّ على ثراء وتعدّد روابطنا في التنظيم الاجتماعي، ذلك أنّ الإنسان يسير في اتجاه هوية كونية، وهو ما يجعل المستقبل غير يقيني. لذلك يقدّم ادغار موران درسـًا في التسامح بالنسبة للذين يزعمون أنهم يمتلكون حلاّ لهوية بعض المجموعات إن لم نقل الهويّة الكونية، ذلك أن مجموع المعارف الإنسانية لا يمكنها أن تكون مهمة مجتمع أو عرق أو ثقافة واحدة، فالتنوع  الإنساني غير محدود ولا نستطيع أن نضع له بطريقة اعتباطية إطارا أو قواعد صلبة، بل إن هذه الوجهة لا يمكن أن تكون إلا وجهة إيقاف حركة الإنساني، لذلك يدعو ادغار موران للاحتراس من عولمة النموذج الغربي المدفوع بالمحركات الأربعة الناجعة التي يمثلها العلم والتقنية والصناعة والرأس المالية، هذه المحرّكات القادرة على إحداث خسائر فادحة تلحق التوازنات الجوهرية للكوكب. ومن هذا المنطلق ينادي ادغار موران  بضرورة الوعي بأهمية التضامن المتبادل والقدر الكوني المشترك، ذلك أن أخلاقيات المعرفة وحدها قادرة على تدبير تناقضاتنا وعلى تكوين خصائص إنسانية. وهو ما يعني أن ادغار موران يريد أن يفكّر في إنساني ثري بتناقضاته: الإنساني واللاإنساني، التقوقع على الذات والانفتاح على الآخر، العقلانية والانفعالية، العقل والاسطورة، الحتمية والحرية...

          والهوية الإنسانية هي في آخر الأمر هويّة مركّبة تتكون عبر الأرض وعبر العائلة وعبر الثقافة وعبر التربية، ولكنها أيضا تتكون عبر اختيار المهنة، وعبر اختيار مواهبنا وقدراتنا، وعبر اختيار قيم الحياة وعبر اختيار الأصدقاء وعبر البحث عن الحقيقة، حقيقة ذواتنا وحقيقة حياتنا. كما أنها أيضا الانفتاح على الآخرين وخاصة الآخر المختلف والنظر إليه لا كمنافس أو كعدوّ ولكن كأخ أو كأخت في الإنسانية قادر على تمرير الحقيقة المختفية في ذاته، كآخر نستطيع العيش معه في اشتراك متبادل فالمهم بالنسبة لكل إنسان هو أن تكون له هوية واضحة وأن يكون منفتحا على الآخرين.


Add as favourites (104) | Quote this article on your site

  Be first to comment this article

 

Only registered users can write comments.
Please login or register.

Powered by AkoComment Tweaked Special Edition v.1.4.6
AkoComment © Copyright 2004 by Arthur Konze - www.mamboportal.com
All right reserved

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :